Tuesday, June 9, 2015

ربع براندى ... قصة قصيرة



يسألنى عمرو وعواصف ديسمبر تضرب أبواب الحانة الخشبية:
"نجيب 2 ستلا كمان؟"
"هات، شكلها ليلة طويلة، المطرة مبطلتش من العصر وشوارعنا بتغرق فى شبر مية!"
فينده النادل العجوز الجالس بجوار المذياع يسمع أم كلثوم تشدى بأن هذة ليلتها التى حلمت بها طوال حياتها:
"2 ستلا يا عم بطرس، وطبق ترمس"
ثم يلتفت إلى وأنا أرتجف من برودة الشتاء ومن أشياء أخرى...
"أيقتلك البرد؟!"
"بل يقتلنى نصف الدفئ ونصف الموقف أكثر!"
ثم ننفجر فى الضحك، لطالما أرتبطت قصائد مظفر النواب الثملة بجلسات الخمر فى حانات وسط البلد...
جو مثقفي وسط البلد الذى تعرفنا عليه مع بداية الثورة وأنغمسنا فيه حتى النخاع بعد أن حدث ما حدث!
يأتى بطرس ليضع الزجاجتين الذين تزينهما النجمة المحببة وطبق الترمس وينصرف وهو يشدو مع الست التى تطلب منه كأسا مملوءًا بالغرام، ينظر لى عمرو  وأنا أمسك زجاجتى بيد مترجفة:
"اللى يشوفك بتبص لستلا كده يقول أنك عايز تنام معاها" ويضحك منتشياً
"يا حمار، ستلا هى باقيلنا..." ثم أقبل الزجاجة على رقبتها وأجرع منها جرعة ضخمة قبل أن أصب الباقى فى كوب وأعصر عليه بعض الليمون!
"الجنرال أستغل المحلات المقفولة فى رمضان وغلاها تانى!"
"العرص بيلعب إن الخمرة والسجاير مش مقبولين ومحدش هيعرف يعترض"
"يعنى حد كان عرف يعترض على الدم والأعتقالات والبنزين لما هنعترض على الخمرة ولا السجاير"
"على رأيك، اللى بيفتح بقه بيطلق عليه كلابه فى شوارع ومعرصينه على التلفزيون!"
"ما بلاش أم السيرة اللى تفوق ديه وشوفلنا رانيا أخرت ليه..."
"أهيه جت أهيه"
تدلف من باب الحانة الدوار فتاة فى منتصف العشرينات ذات جسم بض وشعر كيرلى تلتفح بكوفية المقاومة الفلسطينية وفى يدها علبة سجائر مستوردة رخيصة لا أعرف من أين تأتى بها، تسلم على كلينا وتقبلنا قبل أن تجلس طالبة ستلا هى الأخرى.
"كنتى فين كل ده؟"
"المخبرين مرشقين حوالين الحزب وعقبال ما خلصنا الاجتماع وفلتنا منهم أنا والرفاق"
ينظر لها عمرو ساخراً:
"لسه بتعملوا اجتماعات ومناقشات ملهاش لازمة!"
تنظر له فى حدة قائلة:
"ماهو لو كلنا فقدنا الأمل وقعدنا نتريق زيك يبقى محدش هيعمل حاجة وده اللى عايزين يوصلونا..."
أقاطعها فى ضجر:
أنا سمعت المناقشة ديه 100 مرة ومش طالبة أضيع الليلة فى المرة ال101" ثم ألتفت إلى الساق العجوز: "يا بطرس، نزل ربع براندى!"
يهتف عمرو: "إيه ده كريم جه كمان"
يدلف من الباب الدوار شاب أسمر ذو ذقن نامية وشعر طويل مربوط وراء رأسه حاملاً شنطة ظهر سوداء لا تفارقه لا تعرف ماذا يفعل بها، الطراز الذى تجده فى كل ركن فى وسط البلد سواء فى المقاهى أو الحانات الرخيصة أو البارات على أسطح الفنادق، وبالطبع ينتمى له بقيتنا إيضاً!
يجلس كريم معنا وينتظر أن يضع بطرس البراندى وجردل الثلج ليطلب منه بيرة مايستر، أقوم بفتح زجاجة البراندى وصب القليل منها مع الثلج وبعض البيرة.
البراندى... خمرة الشعب، منقوع براطيش بطعم السبرتو رخيص الثمن ولكن طعمه محتمل عند خلطه بالبيرة أو الكولا ولا  يسبب هانج أوفر قوى فى الصباح بل أنك تستيقظ شاعراً بأمتنان للتخلص من هذا السم من جسمك.
يسأل كريم فى سخرية:
"لسه بتشربوا الزفت ده؟"
"بقولك إيه إحنا فى أخر الشهر أعزمنا أنت على ويسكى بدل التناكة ديه!"
"يعنى فرقت، أهوه كله سبرتو!"
يقوم عمرو إلى الحمام ليفرغ مثانته من أطنان البيرة فى الوقت الذى يخرج كريم للرد على الموبيل ولا يتبقى سوى رانيا والبراندى وأنا
"عامل إيه فى الأمتحانات؟"
أجيب فى ضجر: "زى كل سنة كالعادة..."
"يابنى حرام عليك بقالك أربع سنين فى سنة تانية، هندسة صعبة بس مش كده!"
أنظر لها فى وجوم ولا أجيب ثم أرشف من كأس البراندى
"من ساعة ما عرفت سكة المظاهرات والثورة وأنت ساايب الكلية، فاهمة أسبابك بس مستقبل الثورة مبقاش واضح فحاول تخلص أنت... محمود الله يرحمه لو كان عايش مكنش هيبقى مبسوط وهو شايفك كده!"
أشيح بنظرى عنها وأصب كأساً أخر من البراندى مركزاً بلا بيرة وأشربه على جرعة واحدة وأقول دون أن أنظر لها:
"يومها دفننا محمود الصبح ونزلنا الضرب فى محمد محمود خمس ساعات، مكناش عايزين نرجع غير لما نحس إننا خدنا حقه أو نحصله" تنظر فى الأرض وتصب كأساً هى الأخرى وترشف منه قبل أن أتابع: "يومها وقعتى من الغاز والتعب، شيلتك وجينا هنا وطلبنا براندى، فضلنا نشرب ونسينا الضرب ومحمود والزمن كله ومفوقناش عير على سريرك تانى يوم..."
"كفاية!!!"
يرجع كريم فى هذة اللحظات ويسأل: "مالكم يا جدعان؟!، صوتكم جايب شارع شريف"
أرد بفتور: "مفيش" ثم أسأل محاولاً تغيير الموضوع: "سمعتوا أغنية يسرا الهوارى الجديدة؟"
يأتى عمرو حاملاً طبق من الفول النابت: "آه، ديه معايا هسمعهلكم"
يقول كريم فجأة:
"قبضوا على هند نعمان وأبراهيم الدالى"
يرد عمرو مصدوماً:
"ولاد الكلب!! مش مكفيهم اللى خدوه مننا!"
"بيفتحوا الملفات القديمة اليومين دول وأنا شايف نستخبى شوية لحد ما الدنيا تهدى..."
تصدر منهم همهمات ومختلفة فحين إن البراندى بدأ تأثيره علي فلم أدرى إلا وعمرو ورانيا قد أنصرفوا ولم يتبقى سوى أنا وكريم وأمامه زجاجة I.D.  بطيخ وزجاجة البراندى الفارغة.
"أحا، I.D.  إيه يا خول، الرجالة تشرب بيرة!"
"نزلنا نبحث عن الهوية فلم نجد سوى الI.D. "
أضحك شاخراً: "بطل أم العمق ده ونزلنا براندى ولا ويسكى!"
ينادى بطرس الذى ما زال يستمع للست التى  تعلن إن الموعد قد فات فلا داعى للمزيد من التعذيب والشقى:
"أزازة أولدستاج يا عم بطرس وجردل تلج بدل اللى ساح" ثم يلتفت إلي وأنا أشدو مع أم كلثوم فى نشوة "لسه زى ما أنت يا رفيق، تنسى الدنيا كلها لما ثومة تغنى"
"المصريين حبوا أم كلثوم أكتر من إى حد لدرجة أنهم سموها بأسم أمنا إيزيس وبقوا يقولوا عليها "إست" "
يضحك كريم بينما يضع عم بطرس زجاجة الويسكى الصغيرة بيننا وينصرف، يسألنى كريم وهو يصب كأس لكل منا:
"أصب عليه بيرة"
"وش!"
يضحك كريم ثم ينظر لى ويسأل:
"لسه ساكن مع صحابك فى جاردن سيتى؟"
أومئ له أن نعم وأنا ألصق لفافة التبغ بلسانى
"لسه مش ناوى ترجع البيت؟"
"أتكلمنا فى الموضوع ده بما فيه الكفاية!"
"طب حتى أسأل على أبوك!"
"عنده هو اللى وصلنا للطريق المسدود ده!"
أتركه وأذهب إلى الحمام لأفرغ معدتى، كل هذة الخمر الرديئة فى ليلة واحدة  مهلكة بالتأكيد، ثم أعود لأجد كريم قد دفع الحساب مع الكثير من البقشيش لبطرس، أنه كأغلب جيلنا فى أوائل العشرينات يعمل عمل مبهم لا أدرى كنهه لكنه يكفينا فى ليالى الخمر والدخان...
أجلس وأطلب من بطرس زجاجتى بيرة ثم ألتفت لكريم:
"كيف حالك مع صفية؟"
"لسه فى أم الفريندزون!"
تقدروا تخرجوا منها لو عايزين.."
"أنا عندى فير أوف كوميتمنت وهى مش عارفة تخلص من الدادى إيشوز اللى عندها"
"رجعنا لكلام الخولات تانى، هستعجلك البيرة عشان تسترجل"
يقهقه كريم بينما يضع بطرس زجاجتى الستلا وينصرف والست تحكى للنيل عن حبيبها وحبهما الذى لا مثيل له
"تفتكر لو حد من أيام المدرسة شافنا دلوقتى هيقول إيه؟!"
أضحك نذكر أيامنا كطفلين مثاليين من الطبقى الوسطى فى أحدى المدارس اللغات حيث كنا دائما من الأوائل ونذهب يوم الجمعة للنادى لنمارس رياضة ما، وكريم الذى كان متدينا ولا بدع أبداً دروس المسجد!
"آه كم تبدو ذكريات سحيقة!!"
"كل شئ حدث قبل 2011 يبدو أنه حدث فى حياة أخرى وفى زمن أخر، كل شئ: المدرسة، الأهلى، الثانوية، منّه، بداية الجامعة..."
نضحك فى تأثر ونجرع من البيرة بينما تدخل رانيا ثانية وتشير لكريم بطرف خفى أن يتركنا بعض الوقت فينصرف، ثم تقترب منى حتى تسند رأسها على كتفى وتسأل:
"وأخرتها؟"
أنظر لها نظرة خاوية وأواصل شرب البيرة المثلجة المهدئة للأعصاب والمثيرة لها فى نفس الوقت، وتكرر سؤالها فأجيب:
"أخرة إيه يا رانيا!، بتحبينى وبعدين؟ إيه اللى يخليكى ترتبطى بيا وأنا مش عارف أنا بعمل إيه فى الحياة، دراسة وفشلت، صحة وأدوية الأكتئاب فشختنى، لولا حبة الشغل اللى بيجوا كل شوية كان زمان الواحد مات من زمان... حتى الثورة اللى دفنا نفسنا فيها فشلت وما نبنا إلا العيال اللى ماتوا وأتسجنوا، أنا بقيت أطلال، شبح مش عارف أنا عايز إيه أو بعمل إيه!!"
تبكى رانيا بحرقة مع نهاية كلماتى ثم تسأل بين دموعها:
"أنت مش بتحبنى؟"
"حتى ديه مش عارفها، آه بستمتع بالليالى اللى بنخطفها بالزمن، لما بتبقى شفايفك على شفايفى بحس أنى شارب نبيذ متعتق من قبل التاريخ، لكن أنا مش عارفنى عشان أعرف إن كنت بحبك ولا لا..."
تنهار باكية فأطلب لها بيرة وأنام على فخذيها اللذين طالما وجدت الحياة بينهما وأشدو مع الست...
ثورة فاشلة وعلاقات أسرية متهتكة أدوا إلى ألحاد وفشل دراسى أوصلنا إلى حياة تعتمد على الخمر وأدوية الأكتئاب كى تستمر، اللعنة على البراندى... يذكرك بكل الذى تريد نسيانه!!
"لنذهب إلى المنزل لنكمل هذه الليلة الطويلة!"
نعم ولنصحو لنكمل الحياة الخاوية التى تسير فى العدم...
محمد أسامة
7/VI/2015

2 comments: